lundi 29 mars 2010

قصة قصيرة جدا





لا يترك يوم جمعة دون زيارة والده في أطراف المدينة... يسأل عن أحواله ويروي له آخر ما حدث ويطلب مشورته في بعض الأمور ثم يخلّص النباتات من نباتات أخرى تريد العيش على حساب الأولى وتتطفل عليها وتتدخل في أسرارها.. وكأن الأرض اعترفت ببعض ابنائها وتنكرت للبعض الآخر.. أو هكذا يحلو للانسان أي يصور العالم .. ثم يقوم بملء إناء صغير بالماء للعصافير ..
اليوم اشتكى إلى والده من ولده البِكر الذي يحمل إسم جده : العيفة.

ما له إسم العيفة ؟ إنه يستعير من اسمك ولد الكلب .."و لا خدمة ولا ڤدمة من فوق.." والده لم يجبه .. بقي كعادته صامتا ينظر إلى السماء
هو استرسل في افراغ ما زاد عن حمولة قلبه .. كأن الصمت دعوة للمزيد.. فجأة قطع الحديث بجملة قصيرة : "بابا خليني نمشي توا ..لازمني نخلط على الكار ".. حمل قفته التي لا تفارقه أبدا وإنصرف .. عند المحطة مرت الحافلة دون أن تتوقف.. وجوده لم يكن بذلك القدر الذي يجعل الحافلة، بعجلاتها الستة ومحركها الهرهار وسائقها الذي يقود الزمن، تتوقف.. السائق يعتبر المحطة فارغة إن كان فيها شخص واحد .. وما قيمة شخص في هذه البلاد ؟.. لاتسجد الحافلة إلا لجمع غفير،كتلة سوداء من البشر يذوب فيها الشخص حتى التحلل، تستحق أن يضغط من أجلها سائق الحافلة على الفرامل.. أما الوقوف لشخص واحد هو كالوقوف للعدم..

عاد على أقدامه تحمله و يحمِّلها جسدا بدت عضلاته في الارتخاء ...

لم يعد إلى والده منذ تلك الزيارة التي غنصتها الحافلة بشخصيتها الجامعة و المهرولة دوما إلى الأمام.. غاص في مشاكل ولده الهارب من البيت .. كان يعود في آخر الليل غارقا في رائحة الخمرة الرديئة ومنذ شهر تقريبا يأتي الليل و يذوب في ضوء النهار ولا رائحة له .. قيل له أنهم شاهدوه مع إمرأة وشاب ورابعهم كلب عند تقاطع الطرق مع سكة الحديد .. والبعض قال أنهم خمسة وسادسهم كلب تسلقوا شاحنة أجنبية... أما محمد صديقه والليل قال : أنه فتح في حاوية راسية في الميناء شرخا كالفرج و غاص في أحشائها بحثا عن الدفء في برد الشمال .. هل حرق الحدود لاشعال سيجارة ؟


لم يترك الأب مكانا إلا و دقّ زمانه..دون جدوى من الجدوى عاد إلى والده يطلب مشورته وتوجيهاته ككل مرة إستعصى عليه أمر ما .. قبل أن يصل وعن بعد رأى رافعات ترفع و وشاحنات تدب تماما في نفس المكان الذي فيه والده.. أسرع الخطى كمن يتهيأ لإستقبال مصيبة جديدة ..أراد أن يطمئن على والده ..زاد في إتساع خطواته وتركز تفكيره على شيء واحد فقط: أن يجد والده حيث تركه آخر مرة .. وحيث دأب على زيارته منذ سنين لتنقية الأعشاب من بعضها البعض وسقي الماء للعصافير ..ماذا لو حدث له مكروه ؟ لمن يشتكي ؟ ولمن يفرغ حمولة قلبه الزائدة ؟

ما إن وقعت عيناه على المكان حتى سرت رعشة خفيفة فيه شعر على اثرها بالفشل التام فلم يقدر على الوقوف.. كان القبر مفتوحا ولا شيء بداخله سوى عروق شجرة الكلتوس امتدت إلى القبر... بدأ صوته في الارتفاع في حين ظل هو على الأرض: بابا فين مشيت؟.. فين هزوك؟

ارتمى بصوته على أول عامل مر بجانبه : شنووة هذا؟ و آش تعملوا في الجبانة؟ أعلمه أن المقبرة سيقع تحويلها إلى مشروع للمساكن الاجتماعية و مركز تجاري ودار للثقافة..

آش يهمني في الثقافة ؟ بابا فينو ؟

ألا تقرأ الجرائد؟ منذ عام وقع إعلام للعموم بغلق المقبرة المهجورة في وجه الوافدين الجدد وإجلاء الموتى أو ما تبقى منهم إلى مكان آخر ..

قال: وابي أين هو؟ كان هنا منذ عشرات السنين ؟ أين هو ؟

هذا القبر، قال العامل، لم نجد فيه شيء ! إن العظام لا تمكث في مكانها خاصة في هذا المنحدر .. ألاتعرف هذا؟ تجرفها مياه الأمطار و السيول من تحت إلى قبور مجاورة أو إلى المجهول .. القبور التي تبدو ساكنة في الظاهر هي في الحقيقة في حركة دائمة من التحت.. يتزاور الموتى فيما بينهم و تدخل رفات الرجل على رفات المرأة المدفونة إلى جانبه دون إستئذان ودون حجاب.. عالم تغيب فيه أخلاقنا التي صنعناها .. أنظر إلى هذه الشجرة .. ما كبرت ونمت إلا على الدماء التي تمتصها عروقها من الموتى.. إن كنت تبحث عن أبوك فأسأل هذه الشجرة .. وإنصرف ..

بقي مشدودا إلى الأرض يسألها والده .. لمن كنت اتحدث كل هذه السنين الفارطة، إن كان القبر يملأه الفراغ؟ هل كنت اتحدث إلى الحجر ولا من مجيب ؟ وكل هذه القبور التي تملأ الدنيا وقد جثمت على جثامينها أطنان الرخام ، هل فرّ من تحتها النائمون في الأبد؟

أمهما تُهنا في هذه الدنيا وهرِبنا، عدنا إليك أيتها الأرض في شكل شجرة أو أعشاب تتطفل على أعشاب أخرى، ثم يأتي من يقتلعنا فنتحلل لنعود من جديد إليك في دورة لا تنتهي.. ألا نتحرر منك ومن صمتك المعفر بالتراب ؟

غاص في تساؤلاته ولم يوقضه منها إلا صوت "التراكس"وهو يغيص كفه الباردة تحت القبر ويسحبه إلى الاعلى ثم في شاحنة قريبة أفرغ حمولته ... ثم مر بعجلاته الضخمة على المكان فكأن شيئا لم يكن

1 commentaires:

فتاة الصحراء a dit…

نعم, قصة قصيرة جدا, فليكن هذا عنوان النص ــ عندي ــ طالما قد تركه صاحبه دون عنوان... قصة قصيرة جدا, تبدا بالحياة وتنتهي بالموت.. فهل تنتهي؟...هل ننتهي؟ هل نفنى؟ ألا يتبنى النص هنا نظرية: لا شيء يفنى كل شيء يتحول؟ ..لكنني مع ذلك لا اريد الدخول في مثل هذه التحاليل, النص شدني, الاسلوب بسيط لكنه ممتع وسلس,, ومع انه ليس نصا بريئا عشوائيا هدفه السرد والمتعة فقط, لكنه مع ذلك جاء في شكل يشد القارئ ويجعله يعيش صورا من الحياة وزخما من الاحداث في: قصة قصيرة جدا... قصه من بعض سطور تناول فيها الكاتب ظواهر اجتماعية كزيارة القبور وجدواها والهدف منها وارتباطنا الروحي بها, فالعم اب/ابن العيفه, اكتشف بعد عشرات السنين انه يكلم جذور شجرة الكالاتوس, قد تبدو مهزله, وقد تبدو للبعض مأساة..و قد تكون ايضا ملهاة.. فلتكن ما تكون, هل كان اب العيفه يكلم عروق الشجرة؟ لحود القبر؟ احجاره؟ الاسمنت الذي بني به؟ ام كان يكلم اباه الساكن فيه؟ كان يقطع كل تلك المسافات ليستحضر روح ابيه التي لا تظهر الا بزيارة القبر فهل سيستطيع استحضارها بعد اليوم؟ أم ان ذلك سيكون اخر عهده بموعده الدوري معها...
المسكين, فقدهما الاثنين في وقت واحد, الاب والابن فكيف له بعد الان ان يشكو هذا لذاك؟ هذا الهارب من واقع يرزخ تحت وطأة الفقر والجهل والضياع والانبهار بكل ما ياتي من الشمال.. سيارة فخمه يفاخر بها اقرانه, زوجة شقراء بشعر ذهبي حتى وان كانت عجوزا متصابيه, بضع كلمات بلغة اجنبيه تقول انه امسك مجاديف التطور والحضاره.... وهم يعيشه شباب تائه لم يجد على ارضه ما يستحق البقاء..شباب يرفض ان يبيع " الملسوقه" على قارعة الطريق خلال شهر رمضان, يرفض ان يبيع " الروبافيكا" يوم السوق الاسبوعية لشعب يعيش سواده على الفضلات المستورده..يرفض ان يبيع " الهندي" على عربة متجوله لانه يكره ان تخزه اشواكه..لكنه يقبل ان يبيع جسده رخيصا لعجوز شقراء تشتري من يجدد شبابها بأبخس الاثمان...هذه هي دعارة الرجال...وهذا هو الاستعمار بشكله الجديد..يخرجون من ديارنا ليدخلوا عقول شبابنا وقلوبهم وجلودهم حتى...
النص مؤلم, مؤلم الى حد بعيد, يحفر عميقا..اعمق مما فعلت " التراكس" لا ليخرج رفات امواتنا بل, ليخرج رفات مآسينا على سطح واقعنا المرير..
قد نحتاج سنينا طويلة, اطول من تلك التي قضاها اب العيفه يكلم اللاشيء, لنستطيع ان نتحرر..لاننا لم نتحرر بعد وما زلنا نعاني استعمارا مشؤوما..نتحرر فكريا ونستقل اقتصاديا لا جغرافيا فقط
.................
قصة قصيرة /طويلة جدا

Enregistrer un commentaire